تاريخ مدينة سواكن
بكرى سوركناب
هنالك عدة مؤانى سودانية انشئت على ساحل البحر
الاحمر منذ الازل من اهمها ميناء(باضع_عيذاب_عقيق-سواكن واخيرا بورتسودان) كلها قد
ساهمت فى تاريخ السودان القديم والبحر الاحمر.سنتحدث اليوم عن تاريخ مدينة سواكن
والتى عاصرت ما قبل التاريخ وحتى اضمحلالها بعد انشاء ميناء بورتسودان والتى انشئت
عام 1910م تقريبا.لا يوجد دليل قاطع على تاريخ ظهور سواكن ولكن بعض الكتاب يشير
الى الى ان سواكن او موقعها على وجه التحديد يعتبر من اقدم المواقع الذى قامت فيه
ميناء على خط ساحل البحر الاحمر ويؤكدون ان استخدام موقع سواكن اقدم من النشاط البحرى والتجارى الذى مارسه
اليونانيون البطالمة فى العهد البطلمى ويؤكدون ان الموقع الممتاز والظروف الطيبة
التى يتميزبها( فميناء سواكن يتميز بخليج طبيعى لحماية السفن من الانواء والعواصف
كما تلائم اعماقه رسو السفن ودورانها واستقبالها)على كل حال فان موقع خليج سواكن
لا يبعد كثيرا عن الشروم والخلجان التى لجا اليها رواد الملاحة وليس غريبا ان يكون
واحدا منها. والمعروف ان اسم سواكن لم يظهر ويستخدم فى الكتب الا منذ العصر
الاسلامى العربى وهناك عدة افتراضات وقصصا يتداولها الكتاب لتحليل اسم (سواكن)
ومصدره ومن تلك الاراء التى ذهب اليها الكتاب راى الاستاذ(شاطر بوصيلى) الذى ذكران
اسمها يدل على انها من اصل مصرى قديم وهو (شواخن)ويعنى ذلك فى رايه انها كانت محطة
(شوا) التى تعتبر اقليما نيليا من صميم الحبشة ويذكر ان تحول كلمة (خن ) الى (كن)
كانت نتيجة للظروف المتعلقة بخلو ابجدية اللغات البجاوية من حرف الخاء. وتناول بعض
الكتاب الاسم من وجهة نظر اخرى وذكرو انه مشتق من كلمة عربية اصيلة وهى كلمة
(السوق) ويتصورون وصول بعض العناصر العربية النازحة من الجزيرة العربية واستقرارها
واختلاطها بالبجا كان سببا فى التجمع والاهتمام بذلك الموقع الملائم لخدمة التجارة
وتوجيهها وهكذا اصبح الموقع سوقا ومنها
اشتق لفظ ( سواكم) ثم حرف الاسم فيما بعد الى سواكن وهذا الراى مقبول من
وجهة النظر الموضوعية حيث يطلق البجا اسم(اوسوك) على سواكن ومعناه باللغة البجاوية
السوق .ونود ان نشير الى ان هناك راى اخر طريفاً وغريباً فى ذات الوقت لانه يقول
بان كلمة سواكن مشتقة من لفظ (سجون) جمع سجن والطريف بل الغريب ان يعتبر ذلك
الموقع سجنا يضم الخارجين عن القانون والمجرمين وان الملك سليمان كان يستخدمه لذلك
الغرض ويذكر اصحاب ذلك الراى ان لفظ(سجون) اصابه التحريف مع مرور الزمن
واصبح(سكون) ومنها اشتقت كلمة سواكن.وثمة راى اخر يدعمه الخيال وينبثق من قصة
خيالية حيث يرون ان الاسم فى الحقيقة (سجن الجن) وان الملك سليمان كان يسجن الجان
العاص والمردة فى هذا الموقع ثم حرف الاسم بعد ذلك فصار سواكن.وقد عرف اسم سواكن
وشاع بين الناس اول مرة خلال القرن الثامن الميلادى وكان ذلك عندما مرت فلول اسرة
بنى امية الهاربة بعد مقتل مروان الثانى عام750ميلادية فى الفيوم ويعنى ذلك من
ناحية اخرى ان سواكن عاصرت(باضع) الميناء العربى الاسلامى الخالص وانها كانت تقوم
بوظيفتها كميناء فى خدمة التجارة والملاحة التى ترد عليها من طرق تنساب من الداخل
وتربط بينها وبين بعض مراكزالتجارة على النيل. ويذكر (المقريزى) صاحب كتاب(المواعظ
والاعتباربذكر الخطط والاثار ص119) ان هناك طريقا من النيل الى (سواكن وباضع
ودهلك) وغيرها من جزائر البحرالاحمر نجا منه بنو امية الهاربين عندما جد اتباع
العباسين فى ملاحقتهم.وليس غريبا ان يذكر المقريزى كل تلك الموانى فى موضع واحد
لانه يعنى بذلك ان المواقع التى مارس فيها العرب نشاطهم التجارى كانت على صلة
وثيقة بوادى النيل فى ظهيرها الافريقى. ولما كانت سواكن قد عاصرت باضع خلال خمسة
قرون على الاقل وعيذاب من بعدها فان ذلك يعنى انها عاشت فترة طويلة تمتد من حوالى
القرن الثامن الميلادى الى القرن التاسع عشر الميلادى ويبدو ان باضع ثم عيذاب كانت
شهرتهما وطبيعة خدماتهما للتجارة والملاحة تقلل من قيمة سواكن وتحجبها فلم يكن لها
ذكر ولنضرب بذلك بعدم ورود اسمها فى (عقد الامان) الذى اعطاه عبد الله بن الجهم
للملك(كانون بن عبد العزيز)عظيم البجاة عام831م. وتؤكد جميع المراجع العربية
القديمة ان سواكن وظهيرها كان يستقبل افواجا من الاسر العربية خلال القرون(التاسع
والعاشر والحادى عشر) وكانت تلك العناصر تصل اليها عبر البحر من اليابس المقابل
مباشرة طلباللاستقرار فى الوطن الجديد.ويبدو ان سواكن ظلت منذ ان بدا سيل التسرب
العربى وحتى1255م قرية صغيرة محدودة القيمة سكانها من الهمج وانها كانت تخدم نشاطا
محدودا لمرور تجارة الدويلات المسيحية فى قلب حوض النيل الاوسط وتبرر الحقيقتان
السابقتان عدم امتداد المد الصليبى البحرى التى تسربت بعض موجاته الى مياه البحر
الاحمر فى النصف الثانى من القرن الثانى عشرالميلادى على وجه التحديد وكان اهتمام
(ارناط) زعيم الصليبين موجها الى الموانى الكبيرة العربية الاسلامية (كعيذاب وجده)
ولو القينا الضوء على طبيعة العلاقات بين سواكن واهل سواكن من ناحية وبين مناطق
الظهر القريب والبعيد من ناحية اخرى لوجدنا انها تمثل النافذة التى يطلون عليها
على العالم ولابد من افتراض سيادة العلاقات الطيبة فيه لان ذلك هو المبرر الوحيد
الذى يفسر مرور التجارة وامتداد الطرق والدروب فى قلب اوطان البجا. وقد اشار
المقريزى وابن سليم الاسوانى الى تلك الطرق وانها كانت تربط بينها وبين مراكز
تجميع التجارة على النيل وتنساب فيه السلع والمنتجات السودانية. وهكذا كانت سواكن
مركز لنشاط تجارىاسترعى نظر مصر وجذب انتباهها حتى عمل سلطان المماليك على وضع
ايديهم عليها نهائيا وهناك اكثر من دافع لذلك واهمها هى وضع الحد للتهديد المباشر
والغير مباشر الذى كان يعترض تجارة البحر الاحمر واحكام الرقابة على الدويلا ت
المسيحية وعلاقتها مع الخارج ومهما يكن فان سقوط سواكن فى يد مصر كان له مغزى
سياسى بعيد الاثر فى السودان ذاته لانه يعنى احكام السيطرة والرقابة العربية
والاسلامية على المنفذ البحرى والتهديد المباشر لمعاقل المسيحية فى النوبة وبذلت
مصر من جانبها كل ما وسعها لرعاية سواكن والساحل السودانى وكانت الحملات تصلها من
حين لاخر لحفظ النظام واقرار السلام وتثبيت السلطة وجلب السلع وجباية الضرائب
وكانت من تلك الحملات الحملة التى سيرها السلطان الناصرسنة1310 ميلادية الى سواكن
لتثبيت يد مصر عليها وتامين التجارة المارة بها واذا علمنا بان دولة (المقرة)المسيحية
قد لقيت نهايتها سنة1340م فان ذلك يدل بطريقة علمية على مدى القيمة الاستراتيجية
والاقتصادية لميناء سواكن. ويكن القول ان سواكن ظلت خلال تلك الفترة من تاريخ
حياتها والتى استمرت الى السنوات الاولى من القرن الخامس عشر الميلادى من الموانى
الصغيرة غير المشهورة وكانت خدماتها محدودة كتصريف بعض سلع الدويلات المسيحية
ومرور الحجاج من المسيحين الى الاراضى المقدسة فى اورشليم وذلك حتى اوائل القرن
السادس عشر الميلادى حيث اذداد المد العربى الاسلامى وعملت سواكن فى خدمة تجارة
الرقيق والتىكانت تجد سوقا مذدهرا فى شبه الجزيرة العربية وخدمة تجارة التهريب
ومرور السلع المحظورة والتى كانت فى الغالب سلع يتم تهريبها لا لانها محظورة بل
ربما كان لمجرد التهرب من الضرائب والمكوس الجمركية عليها فى ميناء اخر يخضع
لاشراق حكومى منظم ميناء(عيزاب). والواقع يقول ان انتقال سواكن من حال الى حال
ترتب عليه المحنة التىى تعرضت لها(عيذاب) على يد سلطان المماليك
حوالىعام1426ميلادية وترتب عليها ان هاجر بعض اهلها الى سواكن لاستئناف حياتهم فى
خدمة التجارة والملاحة وتؤكد المراجع انه فى نفس تلك السنة بالذات والتى خربت فيها
عيذاب وصلت السفن التجارية الكبيرة المحيطية الى سواكن من الهند والصين وتصدرت منذ
ذلك الحين موانى الساحل السودانى واعتلت مرتبة ممتازة بين موانى البحر الاحمر بصفة
عامة.
اصبحت سواكن ميناء السودان الاول بعد تخريب
عيذاب وكان لاذدياد شهرتها عدة عوامل تحكمت فيه الظروف الاقتصادية والسياسية
فالظروف السياسية تفهم على ضوء علمنا بالتوسع المصرى والسيطرة على ذلك الجزء من
اقصى شمال شرق السودان خلال القرن الخامس عشر الميلادى ويعنى ذلك ظهور القوة
السياسية التى يتحتم وجودها ونشاطها فى رعاية موانى الساحل السودانى والظروف
الاقتصادية من ناحية اخرى والتى تتلخص فى انتظام الملاحة فى البحر الاحمر وتدفق
التجارة المتبادلة بين الشرق والغرب والتطورات الحضارية والتى كانت سببا فى
الاقبال على سلع ومنتجات الاقاليم السودانية والافريقية (سن الفيل- ريش
النعام-الصمغ بالاضافة الى الرقيق).
تعتبر هذه المرحلة من تاريخ سواكن والتىتمتد من
القرن الخامس عشر وحتى اوائل القرنالتاسع عشر الميلادى متذبذبة فتارة ميناء هامة
مشهورة ومذدهرة كمرفا لاستقبال وخدمة سفن
التجارة الدولية ثم تعود فتخبو شهرتها وتفقد قيمتها وتتدهور الى حد خطير يثير
الدهشة وهناك عوامل عديده ساعدت فى ذلك ومن اهمها حدثين اساسين وخطيرين هما:
اولا: كشف طريق راس الرجاء الصالح فى اواخر
القرن الخامس عشر الميلادى واتجاه جانب كبير من الملاحةالمحيطية
اليه حتى بات منافسا
خطيرا لكل الطرق التى تمر بها التجارة بين الشرق والغرب ومن ضمنها طريق البحر
الاحمر.
ثانيا: تدهور النفوذ
المصرى على خط الساحل فى البحر الاحمر وذلك نتيجة لاضطراب الحياة السياسية
وتدهورها فى دولة المماليك فى مصر ذاتها ويعنى ذلك ان البحر الاحمر والتجارة
والملاحة فيه فقدت القوة التىتحفظ نظامها وتناقص حجم التجارة المارة به.
وفى فجر القرن السادس عشر عادت من جديد ميناء
سواكن الى التمتع بالشهرة واذدياد حجم التجارة وعدد السفن الواردة حتى تربعت على
قمة المجد مرة اخرى وكان ذلك نتيجة مباشرة لانقضاء عوامل الضعف ومولد ظروف جديدة
تمثلت فى ظهور قوة الاتراك العثمانين وسيطرتها على كل من مصر والبحر الاحمر وقيام
دولة (الفونج) وظهورها فى الاراضى السودانية وفرض سلطانها على مساحات كبيرة فى
الجزء الاوسط من حوض النيل وطوال تلك الفترة كان الفونج
يتكفلون بتجميع السلع والمنتجات وتوجيهها
فتمر القوافل فى رعايتها عبر الطريق من سنار الى كسلا ثم الى سواكن فى امن وسلام
اما العثمانيين فكانو يشرفون فى سواكن على تسويقها وشحنها والتبادل عليها وكان
لذلك التعاون الايجابى اثر فعال فى اذدياد حجم التجارة وارتفاع قيمة سواكن
واذدهارها ويبدو ان تجارة البحر الاحمر قد عادت الى سابق عهدها من نشاط واذدهار
بعد ان اعاد العثمانيين الامن فيه حرصا منهم على مركزهم الحيوى الممتاز وعاد
الاوربيون اليه لا من اجل التجارة فقط بل من اجل اغراض سياسية اخرى والمفهوم ان
العثمانيين حرموا كل السفن الاوربية المرور والملاحة شمال (جدة) واصبحت سواكن على
الجانب المقابل اخر الموانى التى يمكن ان تصل اليه الملاحة ويعنى ذلك ايضا انها
كانت فرصة مكنت سواكن من ان تقوم على خدمة اعداد متزايدة من السفن وهناك ايضا عدة
عوامل منحت سواكن الفرص الملائمة لنموها واذدهارها منها المحاولات الاوربية التى
بذلت من اجل السيطرة او المشاركة فى السيطرة على الاقل على البحر الاحمر وقفزت
سواكن فى ظل تلك الظروف كلها الى الصدارة بالنسبة لكل الموانى فى كل انحاء الدولة
العثمانية الاسلامية خلال القرن السادس عشر واصبحت اغنى مدن التجارة فى الشرق لا
يضارعها الا ميناء لشبونة البرتغالى .
ويعتقد ان شهرة سواكن وغناها واذدحامها بالحركة
وتزايد قيمتها فى خدمة تجارة الملاحة ترجع الى اسباب اساسية هى:
1/
ملاءمة المرفا الطبيعى لرسو السفن وحمايتها.
2/ سهولة عمليتى الشحن والتفريغ من
السفن لان المرابط لا تبعد كثيرا من مواقع السكن والتخزين.
3/ اتصالاتها بالجهات البعيدة ونشاطها
التجارى مع الهند وموانى البحر الاحمر الاخرى.
4/ حصانة موقعها وامتناعها على القطع
العسكرية البحرية التى لا يمكن ان تقترب اليها او ان تهددها بسهولة من عرض البحر
5/ هذا بالاضافة الى العلاقات الاقتصادية
بينها وبين الاقاليم السودانية فى ظهيرها.
بالرغم من الشهرة العظيمة التى لاقتها
سواكن فى ظل الحكم العثمانى الا انها
تعرضت لهزة عنيفة وساهمت عوامل عديدة فى ذلك ويمكن تحميل ما حدث للحكم العثمانى
المضطرب المتدهورمااصاب موانى البحر الاحمر عامة من تدهور ونعتقد ان سياسة الحكم
العثمانى كانت تهدف الى محاربة التيارات الاوربية الطامعة مما قلل من نشاط التجارة
العابرة وعرقلت من نشاط التجار الاوربيين العاملين على طريق البحر الاحمر ويبدو
انهم كانوا يخشون على انفسهم واموالهم وتجارتهم من المعاملة العثمانية السيئة
وتحالف العثمانيين مع الاحباش على مقاومة اى نشاط اوربى فى اى صورة فى مياه البحر
الاحمر وسواحله وكانت هذه السياسة الجديدة خطيرة بالنسبة لقيمة البحر الاحمر
كشريان لمرور التجارة بين الشرق والغرب وحظرت سفن معينة وعناصر نشيطة عاكفة على
نقل التجارة ومرورها مما يعنى التخلى عن السياسة القديمة التى كان قوامها حرية الملاحة
والمرور.
من الاشياء التى ساهمت ايضا فى تدهور سواكن هو
اتساع رقعة الدولة العثمانية الامر الذى ادى الى تشتيت قوى الدولة وانصرافها عن
بعض الاجزاء وتركيزها نحو اجزاءاخرى واذا كانت سواكن قد قاست من جراء ما طرا على البحر الاحمر وتجارته ومرور السفن
فيه فان ظروف سيئة اخرى كانت تقلل من قيمة التجارة التى كانت تصل اليها من
الاقاليم السودانية وظهيرها وتتلخص تلك الظروف الى تسرب الضعف الى القوة المسيطرة
على قلب الانتاج فى السودان(ضعف دولة الفونج لانهم فيما يبدولا يملكون القدرة على
ازالة العصبية القبلية وخطرها) وكان هذا الضعف والاضطراب فى كل من البحر الاحمر
والاقاليم السودانية مدعاة لتدهور واضمحلال سواكن مرة اخرى وقد استغرق هذا التدهور
كل القرن السابع عشر الميلادى وتؤكد كل المراجع انه فى تلك الفترةان كل السفن
الاوريبة ومعظم التجارة هجرت البحر الاحمر حتى اقفر تماما ولم يعد ثمة عودة امل فى
عودة النشاط او الحياة الى سواكن الا اذا تبدلت الظروف بظروف مناسبة وتغير الموقف
السياسى والاقتصادى فى كل من السودان والبحر الاحمر وهذا ما حدث فعلا بعد سنوات
قليلة من بداية القرن التاسع عشر الميلادى على يد مصر والتوسع المصرى فى السودان
ودخلت سواكن مرحلة جديدة فى تاريخ حياتها وذلك بعد وصول اسرة محمد على الى الحكم
فى مصر واحلامها التوسعية من ناحية الحدود الجنوبية من اجل اهداف اقتصادية
واستراتيجية بعيدة المدى وحتى تضمن مصر سلامة حدودها الجنوبية وفعلا وصلت جيوش
محمد على الى السودان عام1821م ولكن رغم ذلك كله فان سياسة محمد على عمدت الى
احتكار كل السلع الخاضعة للحكومة من المنتجات السودانية ثم توجيهها الى مصر مباشرة
واصبحت كل السلع السودانية التى يطلبها السوق الاوربى تمر بطريق مصر وموانيها على
ساحل البحر الابيض المتوسط ولذا فان سواكن لم تنتعش فى هذه الفترة وظلت لها نفس
الصورة المهزوزة والنصيب القليل من التجارة السودانية.
ولكن حدث انقلاب هام قفز بها الى قمة المجد مرة
اخرى وكان ذلك الحدث الهام هو شق (قناة السويس) وافتتاحها للملاحة الدولية
عام1869م وترتب على ذلك تحول اعداد كبيرة من السفن الى ذلك الطريق حتى اصبح البحر
الاحمر اكثر اذدحاماً بالحركة وكان من الضرورى ان يعمل التيار السياسى المصرى فى
البحر الاحمر ايضا من اجل المحافظة على مركزه ومصارعة ومجابهة التيارات الاوربية
الدخيلة وابعادها او التخلص منها وكانت الخصوة الاولى التى خطتها السياسة المصرية
هى العودة الى نقط وموانى خط الساحل الغربى(سواكن ومصوع) وفعلاً تنازلت عنهما
السلطة العثمانية لمصر فى مايو1865م وكانت تلك الخطوة خير ضمان للسياسة المصرية
لانها ابعدت خطر ارتكاز البريطانيين والفرنسيين عن بعض النقاط والموانى على خط
الساحل التى تقع ممتلكات مصر فى ظهيرها وكفل لها اتصالا مباشراً بين موانى خط
الساحل السودانى(سواكن) والارترى(مصوع) وبين التجارة الدولية العابرة. وفعلاً عملت
الحكومة المصرية وبذلت عناية مستمرة بالمنطقة الممتدة فيما بين سواكن ومصوع من اجل
تحسين موارد المياه فى ظهير سواكن بالذات لخدمة الميناء وتنميتها وتوفير بعضها
للانتاج الزراعى الذى يضمن لسكانها والسفن المارة بها مورداً طيباً للحياة وتلك
السياسة اسهمت بنصيب كبير فى تطوير نشاطها وزيادة ورود القوافل اليها من الداخل
واصبحت الميناء الرسمى لخروجالتجارة للسوق العالمية وعادت السفن الاوربية اليها
بحثاً عن السلع السودانية والافريقية التقليدية. وكان من الطبيعى ان تدب الحياة فى
سواكن وان تسترد بعض عزها القديم فى خدمة الملاحة والتجارة فى السنوات العشرة
التالية لافتتاح قناة السويس والسابقة لقيام الثورة المهدية واذدحمت بالسكان من
البجا والعرب وابناء الجاليات الوافدة اليهامن(يونان-ترك-يمنيين-مصريين-ارمن-شوام
وهنود) وغيرهم من اصحاب المصالح التجارية وزاد فيها عدد العمائر العالية التى لا
تزال اثارها حتى الان موجودة.
ارتبطت سواكن بميناء السويس وبعض موانى البحر
الاحمر على الساحل الاسيوى بخدمات بحرية منتظمة وعملت عليها سفن بعض الشركات التى
تكونت لخدمة تجارة البحر الاحمر والخليج الفارسى منها(الانجلو-هندية) و(الشركة
الخديوية)و(وشركة ملاحة رباتينو الايطالية) هذا بالاضافة الى مزيد من سفن الملاحة
المحيطية وكانت من اهم السلع التى اهتمت الحكومة المصرية بتصديرها تتمثل فى محصول
البلح فى منطقة النيل النوبى وفىزراعة مساحات بحصول القطن فى دلتا طوكر بالاضافة
الى بعض السلع التقليدية(كالصمغ العربى وسن الفيل والجلود وريش النعام وشمع العسل
والسمن).
اهتم الحكام المصريين بميناء سواكن فى تلك
الحقبة وحاولو ربطها ببقية مدن الانتاج عن طريق السكك الحديدية الا انه ورغم كل
الجهود التىبذلتها الحكومة المصرية لم يكتب لهذه المشاريع النجاح لاندلاع (الثورة
المهدية) ومهاجمة قوات (عثمان دقنة) لهذا الخط من حين لاخر وحرقه(للفلنك) فى بعض
المواقع حتى صدرت التعليمات بوقف العمل فيه يوم27/ مايو/1885م وعاشت سواكن فى تلك
الظروف وانقطعت علاقتها بمنطقة الظهر وخدمة القريب منها والبعيد وذلك بعد محاصرتها
بواسطة قوات عثمان دقنة وتحملت عبء التوقف عن تادية خدماتها وكان عليها ان تدفع
الثمن من كيانها وان تنتهى الى مصيرها الذى انتهت اليه فى فجر القرن العشرين وبعد
استرداد السودان مباشرة.
كان من المفترض ان يضع استرداد السودان فى
سنة1899م سواكن فى وضع جديد وظروف جديدة مرة اخرى يعود معها النشاط وتنتظم اليها
الطرق من الداخل وتذدهر قيمتها بعودة التجارة ومرور السفن ولكن التفكير البريطانى
فى ذلك الحين كان له شان اخر وكان(واطسون) وهو احد الحكام الانجليز فى شرق السودان
قد اشار صراحة فى سنة 1894م الى عدم ملائمة سواكن لاستقبال السفن الكبيرة واقترح
البحث عن موقع اخر على الساحل السودانى يمكن ان تدخل عليه السفن ليلاً على ضوء
فنار يقام فى موقع قريب(وكان بناء فنار سنجنيب عام1894م من الظروف والعوامل التى
ساعدت على انشاءالميناء الجديد فى موقع (شرم الشيخ برغوث) واسست فيه الميناء فعلا
رقم انه كانت هناك مقترحات اخرى كموقع (عقيق).
وبرغم ان هناك محاولات جرت لاحياء سواكن
والتفكير فى ربط سواكن من جديد بخط حديدى وفعلا كان قد بدا العمل فيه (من سواكن
حتى عطبرة)حتى انتهى العمل فيه يوم16/اكتوبر/1905م وتحققت لسواكن عندئذ افضل وسيلة
يمكن ان تكون خدمة النقل اليها من قلب السودان فاذدحمت بالتجارة والسلع وزاد عدد
السفن التى عرجت اليها من اجل الشحن والتقريغ او للحصول على احتياجاتها من فحم
وماءعذب ولكن الصراع عاد مرة اخرى عندما اشار احد المختصين(مستر كنيدى) عام1904م
والذين كلفو من قبل الحكومة البريطانية باختبار موقع سواكن وتقديم تقرير عن
المبالغ اللازمة لتطهير الميناء وازالة الشعب والحواجز المرجانية ولكنه اشار فى
تقريره ان المرابط والمياه العميقة فيما حول جزيرة سواكن لا يمكن ان تتحمل الا
عدداً محدوداً من السفن واشار الى شرم الشيخ برغوث من جديد كبديل لسواكن وتحمس
لقيام ميناء جديد فى ذلك الموقع وتجهيزه تجهيزا حديثا واعداده اعداداً فنياً
لاستيعاب حركة الملاحة ومرور التجارة الخارجية وفى القاهرة اوصى بتكوين لجنة فنية
لدراسة الموقع والتى وصلت الى الساحل السودانى سنة1904م وباشرت فى الدراسة على
الفور لجمع المعلومات وقد تاكدت اللجنة من صلاحية الموقع لانشاء ميناء جديد.
لم يستغرق الصراع بين سواكن وبورتسودان وفعلا بدا العمل فى انشاء ميناء بورتسودان
عام1906موفى نفس العام امتد الخط الحديدى لها واستمر الصراع من ذلك العام وحتى
عام1922م كانت كل التسهيلات تقدم لبورتسودان بينما لم تلقى سواكن سوى الاهمال وخرج
منها سكانها واصحابها افواجا الى بورتسودان وهم كارهون تحت ضغط تلك الظروف عندئذ
خيم البؤس على سواكن وكان طبيعيا ان تنزل عن مكانتها التجارية التى تمتعت بها قرون
طويلة.
ظلت سواكن من تلك الفترة خالية من كل اثر
للحياة والنشاط ومنازل الجزيرة تبدو مهجورة سواء كانت صغيرة من طابق واحد او كبيرة
من عدة طوابق ومع ذلك فهى جميلة فى مظهرها الخارجى تحكى عن الماضى وقصة الغنى
والزيادة والوفرة ويظهر عليها الطابع الاسلامى والعربى خصوصاً فى المنازل الكبيرة
الضخمة التى تتميز بمشربيات لا تختلف عن مثيلاتها من منازل الطراز العربى الاسلامى
فى(دمشق او القاهرة او بغداد) وجدير بالذكر ان السواكنية الذين اعتزوا بمينائهم
وتمسكو بها ما زال فى قلبهم الحنين والشوق الى الماضى. وفى السنوات الخيرة ومنذ
نهاية الثمانيات عادت بعض صور الحياة تدب فى سواكن من جديد عندما تم افتتاح ميناء
(عثمان دقنة) لكى يعمل فى خدمة نقل الحجاج الىجده ونتمنى ان تعود سواكن الى سيرتها
الاولى من جديد لدفع عجلة التنمية فى البلاد.
اخيرا
ارجو ان انوه انه غاب عنى ان اذكر بعض مظاهر الحياة الاجتماعية فى سواكن خلال تلك
الحقب والتى كانت تذخر بحضارة عظيمة تحكى شواهدها عن ذلك وما وصلنا منه هو القليل
وما (قصر الشناوى) الذى يتكون من غرف على عدد ايام السنة والتى يقال انه كان
لاينام فى غرفة واحدة مرتين فى السنة وكثير من الشواهد على ذلك بل ان كثير من
الاسر كان لها القدح المعلى فى تاريخ سواكن منها اسرة (الكابلى) والتى ينتمى اليها
الفنان الكبير(الاستاذ /عبد الكريم الكابلى) واسرة (العمودى) و(البربرى) و(شمس) وغيرها
من الاسر التى ساهمت فى احياء تلك الحضارة واقدم فى ختام مقالى تحية خاصة الى
ابناء سواكن على وعد ان اتحدث عن بعض مظاهر تلك الحضارة حال توفر المراجع.
No comments:
Post a Comment