Saturday, 7 February 2015

معركة تاماى والتاريخ المنسى



معركة تاماى والتاريخ المنسى
بكرى سوركناب
أجمع المعلقون العسكريون أن من الأسباب المباشرة التي أدت إلى حصار الخرطوم ومقتل غوردون، الحصار الذي ضربه عثمان دقنه على طريق الإمداد الحيوي بين سواكن وبربر والمعارك الدائرة بشرق السودان. وتجدر الإشارة إلى أن مقتل غوردون  خلّف موجة عارمة من السخط الشعبي في بريطانيا وانتقاداً شديداً للحكومة والجيش لتقاعسهم عن نجدة غوردون. زد على ذلك عدم مقدرة الحكومة على تأمين موانئ البحر الأحمر؛ كل هذا شجع على تورط بريطاني أكبر في السودان. لهذا سعت بريطانيا لتعزيز قبضتها على السودان ولفك الحصار المضروب من قبل جيوش المهدي للطريق الرابط  بين بربر وسواكن.
 تتالت هزائم المصريين والإنجليز في المعارك الساحلية، بعد سقوط سنكات المخزي والمعارك الدامية في التيب وتوفريك وتاماي  وهندوب وغيرها واستسلام حامية طوكر، لم يبق لبريطانيا نفوذ في شرق السودان غير حامية سواكن التي تحميها سفن الأسطول الملكي البريطاني، كل هذه الهزائم المتكررة حطت من سمعة بريطانيا مما أغضب الملكة وألب الصحافة والرأي العام ضد الحكومة، استجابة لكل هذه الضغوط وافق رئيس الوزراء قلادستون  بإرسال قوات إضافية إلى سواكن، ولكنها واجهت مقاومة شرسة من قوات عثمان دقنه في مواقع مختلفة على الجبهة الشرقية، وقتل فيها أعداد كبيرة من الجانبين وبالذات الجانب السوداني. قصد بهذه الحملة تأمين الساحل البحري لضمان انسياب الإمدادات للداخل السوداني، ولتأمين إي انسحاب محتمل عبر البحر الأحمر للرعايا والقوات الأجنبية.
أظهرت وقائع الميدان أن التجهيزات العسكرية بين الطرفين لم تكن متكافئة بكل المقاييس، فالجيش البريطاني كان يتفوق على جيش الأنصار، وكذلك في الجانب الآخر جيش عثمان دقنه الذي لم يكن يمتلك من العتاد الحربي غير الأسلحة التقليدية وقليلاً من البنادق التي غنموها من الأعداء، غير أنهم أبدوا كفاءة عالية في استعمالها كما وصف أحد البريطانيين واحدة من  تلك المعارك."إن المواجهة الحقيقية كانت من البجاويين المسلحين بالحراب، حيث يوجهون رماحهم بدقة متناهية وفي الوقت المناسب نحو خيولنا فيصيبون منها مقتلا، كما كانوا يستعملون عصي معقوفة من السنط يصيبون بها ركبة الخيل مما يقود إلى سقوطها وشل حركتها، إضافة لذلك يعترف كبلينغ بمهارتهم في استعمال السيف" يجب أن نعترف بمقدرات (البجاوي) العالية في استعمال السيف.
المربع البريطاني:
المربع البريطاني هو تكتيك حربي بريطاني عريق، يوفر الأمن والسلامة عندما يتحرك الجيش في أرض مكشوفة في مواجهة الفرسان والمشاة المسلحين بالأسلحة البيضاء وأثبت جدواه في معارك كثيرة، وبالذات في حرب القرم مع الروس ومع الفرنسيين في معركة وترلو الشهيرة. ولكن كفاءته القتالية أكثر جدوى في حال أن الخصم لا يمتلك قوة نارية رادعة. من الناحية العملية يوزع الجيش في التشكيلة العسكرية للمربع إلى مربع متساوي الأضلاع، كل ضلع يتكون من صفين أو أكثر من الجنود، من المشاة والخيالة (الفرسان أو راكبي الخيل). يتفاوت عدد الجنود في كل ضلع ما بين 1000-1500 جندي. داخل المربع يتحرك العتاد العسكري من مدافع وذخيرة، كما توجد به المؤن وحيوانات النقل من جمال وبغال وحمير ومعها المشرفون عليها وكذلك بقية الجيش، بهذه التشكيلة يمكن تشبيه المربع بقلعة متحركة حيطانها من الجنود وتحمي أركانها مدافع جالينغ وجاردنر الرشاشة ومدافع الميدان زنة 7 أرطال التي تشكل قوة نارية كافية لتمطر كل واجهة للمربع وتمزق أي هجوم للأنصار، يتميز الجنود في كل واجهة من المربع بمرونة في الحركة السريعة يستطيعون فيها الاستدارة السريعة عند الحاجة لتكوين صف للرماية في حال ما وقع هجوم على المربع.
حصاد المعارك:
 كما ذكر آنفاً أن معارك السودانيين مع البريطانيين كانت ينتقصها التكافؤ والتعادل، بسبب هذا الخلل في موازين القوى أصبحت المعارك الحربية مع البريطانيين في السودان مجازر أكثر من أنها مواجهات عسكرية، بدليل موقعة أمدرمان التي استمرت لفترة وجيزة وقتل وجرح فيها من الأنصار أكثر من 26 ألف سوداني مقابل 45 قتيلاً و382 جريحاً للبريطانيين، في كل المعارك لم يقترب المحارب السوداني من البريطانيين أكثر من 400 متر قبل أن يردى قتيلاً بسلاح ناري، ولكن بشهادة البريطانيين أنفسهم أن المقاتل السوداني أثبت كفاءة عالية عندما كان اللقاء وجهاً لوجه، لذلك يقول كبلينغ عن البجاوي "إنك صرعتنا عندما كان اللقاء وجهاً لوجه، إضافة أنه كان يقاتل حتى الرمق الأخير كما قال فيهم كيبلينغ في مكان آخر من قصيدته "إنه ممتلئ، بحرارة الصحراء وطعم الزنجبيل عندما يكون حياً ويكون أكثر خطورة عندما يحتضر". كيبلينغ كغيره من عنصريي أوروبا يقحم تعابير الاستعلاء العرقي والديني في وصفه للبجا بأنهم همجيون ووثنيون، ولكنه في النهاية يُجبر على الاعتراف بأن الجندي البجاوي محارب من الدرجة الأولى، وأنه رغم فقده لكثير من رفاقه إلا أنه يكفيه فخراً أنه كسر المربع الإنجليزي
من المعارك المهمة في تاريخ المهدية وفي شرق السودان بصفة خاصة معركة تأماي (ثمانية وثلاثين كيلومترات من الجنوب الغربى لسواكن) في 13 مارس 1884 التي خلدها كيبلينغ بقصيدته الشهيرة " فيزي ويزي" والتي كُسر فيها المربع البريطاني، تقول  دائرة المعارف البريطانية عن هذه المعركة أن الجيش الإنجليزي بقيادة سير غراهام حامل وسام فكتوريا كروس، وهو أعلى وسام يمنح لقائد ميداني، يتكون جيش الجنرال جراهام من 3500 بريطاني بين ضابط وجندي، في حين أن جيش عثمان دقنه كان قوامه10آلاف شخص. تأكد عثمان دقنه بحسه العسكري الثاقب وبتحليله للمعارك السابقة بأن المواجهة المكشوفة مع البريطانيين غير ذات جدوى لأنها تعرض جيشه لوابل من السلاح الناري، لهذا أمر جنوده أن يختبئوا بين الشجيرات وفي خور يجري بمحاذاة طريق سير المربع البريطاني والانقضاض عليهم في هجمة واحدة عندما يصبحون على مقربة أقل من مائتي ياردة، وهذا هو الأسلوب التاريخى التقليدي للحرب عند البجا.
  لنقرأ هنا وصف غراهام للمعركة "مجموعة ضخمة من الوطنيين جاءت كسيل متدفق وهجمت بعزيمة لا تلين على كتيبة اليوركشيرز واللانكشيرز مما جعل المربع ينهار ويتخبط في فوضى تامة". روح المبادرة والمباغتة غيرت أسلوب المواجهة بين الجيشين بحيث أصبح الرجال يتقاتلون فرادى أو في شكل مجموعات صغيرة، ولم يكن هنالك مجال لممارسة أية تكتيكات حربية سابقة،  بعد هذا القتال الضاري استطاع غراهام، بفضل القوة النارية الحاسمة، أن يسترد تشكيل قواته بعد أن انسحب جيش عثمان دقنه بطريقة منظمة ومشرفة (كما قال أحد المعلقين) بعد كسرهم للمربع البريطاني، وكانت محصلة المعركة مقتل أكثر من 120ضابط وجندي بريطاني وأكثر من 300 جريح، مقابل 4000 بين قتيل وجريح من جيش عثمان دقنه.
كما كتب الجنرال سير جيرالد جراهام قائد القوات البريطانية في تلك المعركة :
خسائرنا كانت فادحة، فكثير من الرجال الشجعان من الرويال هايلاندرز واليورك واللانكشير قدموا حياتهم لإنقاذ شرف وسمعة وحداتهم.. بلغت خسائر العدو أربعة ألف ما بين قتيل وجريح ، ولكن السودانيين - وكما حدث من قبل - انسحبوا بهدوء و نظام جيد، مقدمين صورة مشرفة عن أنفسهم.. وكان من الواضح أنهم مصممون علي القتال مرة أخرى )
هذه المحصلة من القتلى والجرحى بين البريطانيين تعتبر أعلى خسارة للجيوش البريطانية في أية معركة من معاركهم في السودان بما في ذلك معركة أمدرمان الشهيرة.
 أكثر ما أحبط البريطانيين في هذه المعركة انهيار مربعهم، بهذا الخصوص علق مسؤول بريطاني قائلاً "إن بريطانيا شعباً وحكومة رأت في المربع البريطاني إنجازاً عسكرياً خارقاً وأنموذجاً للتفوق العسكري، وكونه ينهار أمام هؤلاء البجا يعتبر أمراً أشبه بالخيال. هذه البسالة وهذه الشجاعة من المحارب البجاوي لم تترك في نفوس البريطانيين ضباطاً وجنوداً غير الإشادة والتمجيد كما رفعت الحرج عن كيبلينغ ليخلدهم بقصيدته المشهورة فيزي ويزي
بعد معركة (( تأماي )) ١٨٨٤ في غرب سواكن و شرق جبيت قبل العقبة في وادي تأماي في شمال طوكر التي قتل فيه ١٠٠٠ شخص من جيش عثمان دقنه و قتل فيه أغلبية المحاربون الإنجليز غير ان القائد و بعض مساعديه لاذو بالفرار الى عطبره مع ان قائدهم قد أصيب في المعركة و كان طريقهم الى عطبره شاق جداً الأجواء كانت لا تطاق من الحرارة هناك استشهد عدد كبير من البجا الذين كانوا يعلمون بان الدفاع عن الوطن هو من مهام الرجال و كانوا يحملون أسلحة بيضاء كالرماح و السيوف و الخناجر من نوع (( شوتال )) و كانوا يفتخرون و يتسابقون متدافعين نحو نيران الاستعمار بكل شجاعة و بسالة دون محاولة التراجع والذي كانوا يعتبرون التردد و الخوف عيبا و إهانة للرجل و سمعه غير طيبة للقبيلة فكان المحارب البجاوي يخوض المعركة بكل نخوة لكي لا يقال لأبناءه او قبيلته من بعده ان فلانا كان مترددا و خائفاً فكان الموت لهم هدف ومبتغى .
اشاد الانجليز بالبجا فى هذه المعركة وكتب شاعر الامبراطورية الانجليزية وقتها ( كبلنج ) فى قصيدة بعنوان ( فظى وظى )  ويصف كبلنج بسالة المقاتل البجاوي فيقول: (ما لاقيناه من شراسة في حروبنا في خيبر وبورما وجنوب إفريقيا لم تكن الا شربة واحدة من مشروب المياه الغازية مقارنة بما تجرعناه من علقم في حروبنا في شرق السودان ) ولم يكتفوا بذلك بل وضعو نصب تذكارى فى مكان المعركة تخليدا لذكرى جنودهم القتلى فى المعركة كتب عنه الباحث البجاوى دكتور جعفر بامكار مقال اعتقد نشر فى سودانايل جاء فيه (  عند وصولنا لموقع تاماي وجدنا ورأينا وذهلنا وعجبنا فقد وجدنا بالموقع نصباً تذكارياً يزيد ارتفاعه عن الخمسة عشرة متراً وهو مكون من قطعة واحدة منحوته من حجر القرانيت وحولها مقابر الشهداء. لقد سألنا الاهالي عن من اقام هذا النصب ومتى تمت اقامته فقالوا لنا لقد اقامه الانجليز منذ زمن أجدادنا ... أي منذ أكثر من مائة عام .
لقد تم نقل هذا النصب من لندن مباشرة لموقع تاماي وكما نعلم فان حجر القرانيت حجر صلب لاتؤثر فيه عوامل الطبيعة من رياح وأمطار وحرارة ورطوبة وخلافه وان هذا النصب المهيب لايوجد له مثيل في السودان ويمكن ان يصمد لالاف السنين مثل جبال اركويت تماماً.  ) كما وزعو اوسمة لجنودهم وللاسف هناك فيلم عن هذه المعركة موجود على الانتريت اعتقد انه من انتاج انجليزى .                           
الانجليز حتى اليوم مبهورين كيف استطاع مقاتلى البجا كسر المربع الانجليزى  ورغم  أن البجا قد خسروا الآلاف من أنبل وأشجع الرجال ولكن يكفيهم فخرا أنهم قد منعوا الغزاة من دخول البلاد من بوابة الشرق.
مع تحياتى
بكرى سوركناب

No comments:

Post a Comment